كتاب الروائح الزكيّة في مولد خير البرية

الخاتِـمَةُ فِي التَّحْذيرِ مِنْ بَعْضِ مَا أُلِّفَ فِي الـمَوْلِدِ 2

* وَمِنَ الـمَفاسِدِ الَّتِي انْتَشَرَتْ بَيْنَ العَوامِّ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ قُرَّاءِ الـمَوْلِدِ النَّبَويِّ وَبَعْضُ الـمُؤَذِّنِينَ مِنْ قَوْلِـهِمْ "إِنَّ مُحَمَّدًا أَوَّلُ الـمَخْلُوقَاتِ" وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِنَشْرِ حَديثِ جابِرٍ الـمَكْذوبِ "أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورُ نَبيِّكَ يَا جابِرُ خَلَقَهُ مِنْ نورِهِ قَبْلَ الأَشْياءِ"، فَهَذَا الحَديثُ لَا أَصْلَ لَهُ مَكْذوبٌ عَلَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُخالِفٌ لِلْكِتَابِ والسُّنَّةِ.
أَمَّا مُخالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الـمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ... (30)﴾ [سورَةَ الأنْبِيَاءِ]، هَذِهِ الآيَةُ الكَريـمَةُ فِيهَا دِلالَةٌ واضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الـمَاءَ هُوَ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ، فَهُوَ أَصْلٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الـمَخْلُوقَاتِ واللهُ تَعَالَى خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ. ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الـمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ هُوَ الجَمادُ والْأَحْياءُ أَصْلُها مِنَ الـمَاءِ لَكِنَّ اللهَ خَصَّ الحَيَّ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ عَلَى الجَمادِ. كَذَلِكَ الدَّليلُ الشَّرْعيُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ العالَـمِ هُوَ الـمَاءُ وَهُوَ أَوَّلُ الـمَخْلُوقَاتِ خَبَرُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ شَىْءٍ خُلِقَ مِنَ الـمَاءِ».


وَإِنْ حُمِلَ عَلَى إِضافَةِ الـجُزْءِ لِلْكُلِّ كَانَ الأَمْرُ أَفْظَعَ وَأَقْبَحَ لِأَنَّهُ يَكونُ فِيه إِثْباتُ نُورٍ هُوَ جُزْءٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللهَ مُرَكَّبٌ، والْقَوْلُ بِالتَّـرْكيبِ فِي ذَاتِ اللهِ مِنْ أَبْشَعِ الكُفْرِ، لِأَنَّ فِيهِ نِسْبَةَ الحُدُوثِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحيدَ. وَبَعْدَ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الحَديثِ الـمَكْذوبِ ركَاكَاتٌ بَشِعَةٌ يَرُدُّها الذَّوْقُ السَّليمُ وَلَا يَقْبَلُها.
ثُمَّ هُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ الِاضْطِرابُ فِي أَلْفاظِهِ والِاضْطِرابُ أَنْ يَرِدَ الحَديثُ بِعِدَّةِ رِواياتٍ بِعِدَّةِ أَلْفاظٍ بِحَيْثُ لَا يُـمْكِنُ الجَمْعُ لِأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ أَوْرَدُوهُ فِي مُؤَلَّفاتِـهِمْ رَوَوْهُ بِشَكْلٍ، وَءَاخَرُونَ رَوَوْهُ بِشَكْلٍ ءَاخَرَ مُخْتَلِفٍ فِي الـمَعْنَى، فَإِذَا نُظِرَ إِلَى لَفْظِ الزُّرْقانيِّ7 ثُمَّ لَفْظِ الصَّاوي8 لَظَهَرَ اخْتِلافٌ كَبيرٌ.
أَمَّا حَديثُ: "كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الخَلْقِ وَءَاخِرَهُمْ فِي البَعْثِ" فَهُوَ ضَعيفٌ9 كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الـمُحَدِّثونَ وَفِيه بَقيَّةُ بْنِ الوَليدِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَسَعيدُ بْنُ بَشيرٍ وَهُوَ ضَعيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَنَّهُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ وَإِنَّـمَا فِيهِ أَنَّهُ أَوَّلُ الأَنْبياءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ البَشَرَ أَوَّلُـهُمْ ءَادَمُ الَّذِي هُوَ ءَاخِرُ الخَلْقِ بِاعْتِبَارِ أَنْواعِ العَوالِـمِ.


7- المواهب اللدنية (72 – 71/1).
8- بلغة السالك (536/2).
9- المقاصد الحسنة (520/ص)، كشف الخفا (169/2)، أسنى المطالب (242/ص).